نادي الشّعر: أبو القاسم الشّابّي، تونس ~~ نادي الشّعر: أبو القاسم الشّابّي، تونس ~~ نادي الشّعر: أبو القاسم الشّابّي، تونس ~~
إنّ الشّعر كلامٌ راقٍ يصنعه الإنسان لتغيير مستوى الإنسان ~ نزار قباني ~ إنّ الشّعر كلام راقٍ يصنعه الإنسان لتغيير مستوى الإنسان ~نزار قباني ~

الاثنين، 9 نوفمبر 2015

مقطع من رواية "صوت الحبّ" للرّوائيّة فاتن كشو

المكان... كلمة في لغة الضّاد تتكوّن من أربعة أحرف تضغط عليها وهي الفتاة العربيّة المجهولة الجذور أو المبتورة الأصول... المكان يضيق عليها... يطبق على أنفاسها يكاد يفترسها... كلّ الأماكن هنا في هذا البلد تطبق عليها وقد يكون المكان بريئا ممّا تنسبه له، قد يكون ساكنو المكان هم المذنبون: العرب... العروبة تطبق عليها... تخنق أنفاسها وتقيد حريّتها... إنّها وحش بمخالب حادّة غارقة  في الأدران... ما أبشعك يا موطن العرب!  كأنّك الغول الأسطوريّ ذلك الّذي يعشّش بأذهان أطفالك وهؤلاء النّاس هم أظافرك الفاتكة الّتي تجرح دون شفقة...
المكان هو الحيّ وبه الجيران، هو شوارع هذه المدينة ومقاهيها وحدائقها  وبها النّاس والمارّة، هو كلية واسمها كلية الفنون الجميلة وبها الطلبة والأساتذة والإطار وحتّى هؤلاء تنكّروا للعلم وتنكّروا للفن وتنكّروا للتّنوير وأظلم الجهل في عقولهم الشرقية القاصرة، ينظرون لها نظرة تحقير كأنّها لا تنتمي لبني البشر، يستهجنون لونها الغريب عن والديها كأنّها خلقت نفسها. لا يحسدونها لأنّها من عائلة ثريّة لأنّها لم تر يوما في ثرائها امتيازا ولم تعترف به يوما كسبب من أسباب النّعيم... لم تحسد وإن تك قد حسدت فحسّادها لا شكّ يشمتون بها لأنّها تتعذّب وهي لا تأبه لشماتتهم ولا لشفقة قد تأتي من آخرين ولكنّها تتعذّب، تتعذّب مع نفسها ومع لونها المكفهرّ كفضاء هذه الكلية الخانقة... حتّى دارسي الفنّ ومدرّسيه لم يمكن لهم أن يغوصوا في أعماق الحقائق، أن يروا النّفس البشريّة عارية من زيف التمدّن وغطرسة الأعراف والتقاليد والعادي والممكن... هل يجب على البنت أن تشابه أمّها لتكون ابنتها؟ وإن لم تشابه أمّها فما ضرّ لو شابهت أباها؟ لكن ما حدث هو أنّها لم تشابه الاثنين، هما الثلج والبَرَد وهي التراب... ما أبعد التراب عن الثلج والبرَد! وحتّى وإن التقت هذه العناصر يوما فذلك لا يعني أنّها من لدن واحد...
فقدت اسمها، تاه في زخم العقول المريضة... كنيتها صارت اسما معرفا " الوصيفة": كلمة عامية ترادف الزنجيّة في الفصحى. هذه الكلمة اختصرت اسما كاملا يحوي اللّقب العائلي... حينما يسأل أستاذ النّحت عن المتغيّبين يذكرها الطلبة فيعمد بعضهم مشكورا إلى التعريف بها "إنّها الوصيفة الّتي تقطن بحيّ النصر" أمّا فيما بينهم فلا يذكر لها اسم البتة " جاءت الوصيفة، راحت الوصيفة لنتصل ب"الوصيفة" لتطلعنا على بحثها."
ويوم أرادت أن تؤجّر بيتا يؤُمُّها لوحدها... صارت حديث جل الطلاب: " هل تعرفون أنّ الوصيفة هجرت والديها لأنّها اكتشفت حقيقة كونها لقيطة"
تسوّغت  بيتا في "باب الجديد"، تجوّلت في الأحياء العتيقة وفي الأسواق الشعبية، احتكّت بالعامّة وأملت أن ترى نظرة مختلفة توجّه إليها لكنّها لم تر غير الآلام... ظنّها البعض سائحة سوداء واستمعت إلى عبارات نابية تقال عنها وغازلها بعض الشبّان دون أن يغفلوا الإشارة إلى لونها الغامق "كم أحبّ أن تكون حبيبتي سمراء... السّمراء أكثر حرارة في الحبّ"...

لم تطل مدّة إقامتها بعيدا عن البيت الكبير في حيّ النّصر، ليس لأنّها احتاجت إلى والديها فلا تبالي إن عاشت العمر بمفردها لكنّهما لم يطيقا فراقها... الثلج والبرد يودّان أن يلتصقا بالتراب... مفارقات أتى بها الزّمن المقلوب... عادت إلى معقل جراحها تتلمّظ أحزانها في صمت القبور... تلوك هواجسها في عزلة داخلية... استسلمت لواقع يحاصرها كالموت ولا يدع لها فرصة للهرب... الهرب لم يتسنّ لها سوى في سويعات مخطوفة تقضيها في ذلك المرسم الّذي شيده لها رجل تثبت الوثائق الرسمية أنّه والدها... شيده فوق سطح البيت الجديد بحي النصر. المرسم يطلّ على شوارع الحي الراقي... شارع يحلم جلّ التونسيين بسكناه وهو من أجمل الأحياء بالمدينة... حي لا تطؤه الحافلات ولا الأرتال لأنّه حيّ البورجوازيين الّذين عبروا عن رفضهم لوسائل النقل العامة، لم يكن بهم حاجة إليها وهم الأغنياء الّذين يمتلكون سياراتهم الفخمة... إنّه حيّ لا تطؤه أقدام الرّعاع لأنّه حيّ النخبة وهي مع ذلك تتنعّم بالسكن فيه بل أنّها تسكن أجمل شارع به. كأنّها نغمة نشاز في سيمفونية النبلاء... سوداء أنفها أفطس، جبينها بارز وشفتيها  غليظتين وشعرها مجعّد، تعيش في حي النصر ... لا تتذوّق البؤس مع البؤساء ولا تغالب الشّقاء مع الأشقياء لأنّ لها دعامتان قويّتان تدعمان وجودها بين الطّبقة المحظوظة: المال والأصل الرفيع... وإنّها لتعجب كيف يكون لها أصل رفيع وهي السّوداء الّتي يظنّ الجميع بأنّها لقيطة، إنها مفارقة عجيبة وهي لتعجب أيضا كيف تتأسّى من أجل فقراء هذا البلد وهي الّتي لم يرحمها أحد لا الفقير ولا الغنيّ وحتّى عندما التحمت بالعامّة في أحياء "باب الجديد" و"باب سويقة" و"الحلفاوين" و"الحفصية" وفي الأسواق العتيقة: "الدبّاغين" و"الشواشين" وسوق النحاس وسوق "البركة" لم تجن غير مزيد من الجراح... لا أحد فهمها أو أحسّ بمعاناتها ولا أحد عاملها كإنسان سويّ كامل وإن منع الأغنياءَ قناعُ الأخلاق الّذي يلبسونه من إبداء ملاحظاتهم جهرة فإنّ العامّة لا يتورّعون من قول كلّ ما يخطر ببالهم علنا خاصّة تلك الفئة من الشبّان العاطلة الّتي تكاد تسكن بالمقاهي و تتلذّذ بإيذاء المارة. وهي حين تتجوّل بالأحياء العتيقة والشعبية تتحوّل إلى نكرة فلا يشفع لها أصلها الرفيع ولا يمنع عنها التعليقات المُهينة. لكم تودّ أن تعيش نكرة مع عامّة الناس بالأحياء الشعبيّة حتّى وإن تلقّت ما يعادل مجلدّات من النّعوت السيّئة لكنّها حالما حلّت بالمسكن الّذي أجرته وجدت الجميع يبحثون عن أصلها وفصلها وظنّها بعضهم فتاة هوى فتعرّضت لعدّة مضايقات أدّت بها في عديد الأحيان إلى الالتجاء إلى الشّرطة الّتي لم تدّخر جهدا هي الأخرى في المبالغة في التّحقيق والتثبّت وربّما باتت في موضع اتّهام وهي الّتي بدأت  بالشّكوى خاصّة حين يدعي الخصم أنّها  راودته عن نفسه أو أنّها متعوّدة على منح نفسها لطلاب اللّذّة في مقابل. وفي أقسام الشّرطة كان أصلها الرفيع الارستقراطيّ هو الّذي يشفع لها فتعود إلى مسكنها مع نصيحة ذهبية من الشرطيّ المحقّق يدعوها فيها إلى مصالحة والديها والعودة إليهم حتّى لا تتعرّض لأيّ مكروه وهي الفتاة الضّعيفة ومرّة عرض عليها أحد المحقّقين وقد كانت عيناه تتجوّلان في أنحاء جسمها الأسمر الممتلئ أن يبحث لها عن مسكن يكون تحت حمايته حتى لا تتعرّض لمكروه. 

فاتن كشو
الرّوائيّة فاتن كشو مع الرّوائيّ والشاعر لطفي الشابّي في افتتاح الموسم الخامس للنادي بالمركّب الشبابي بالحمّامات في 24 أكتوبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

free counters