نادي الشّعر: أبو القاسم الشّابّي، تونس ~~ نادي الشّعر: أبو القاسم الشّابّي، تونس ~~ نادي الشّعر: أبو القاسم الشّابّي، تونس ~~
إنّ الشّعر كلامٌ راقٍ يصنعه الإنسان لتغيير مستوى الإنسان ~ نزار قباني ~ إنّ الشّعر كلام راقٍ يصنعه الإنسان لتغيير مستوى الإنسان ~نزار قباني ~

الخميس، 15 نوفمبر 2012

قراءة في "صديد الرّوح" للشّاعر سوف عبيد الصّباح الجديد بين نموذج الشابّي ونموذج جاك بريفير بقلم شرف الدّين بوغديري



قراءة في "صديد الرّوح" للشّاعر سوف عبيد
الصّباح الجديد بين نموذج الشابّي ونموذج جاك بريفير

بقلم شرف الدّين بوغديري

ماذا يقصد الشّاعر عندما يختار مرجعيّة نموذجيّة من التّراث في كتاباته؟ هل يقصد مجرّد المحاكاة؟ أم هو يطمح إلى التّجاوز الإبداعي؟ ولكن أيّ تجاوز وهو يعلم أنّه يواجه عدميّة الزّمن؟ ما هو بيت القصيد من هذا الاختيار ؟
 لقد تبادرت إلى ذهني هذه التّساؤلات وأنا أقرأ بعض قصائد الشّاعر سوف عبيد في مجموعته "صديد الرّوح" وأتوقّف عند عنوان "الصّباح الجديد" وهو نفس العنوان لقصيد كتبه أبو القاسم الشابّي في بدايات القرن الماضي وأدرجه في ديوانه "أغاني الحياة".
ولكن يبدو أنّ هذه المرجعيّة لا تتجاوز اختيار العنوان فقصيد الشابّي جاء موزونا على مجزوء الرّمل يتردّد فيه الطّالع على غرار الأغنيات والأزجال، ثمّ هو قصيد يظهر فيه أثر الرّومنسية من الشّعراء الرّومنطقيين، الّذين عاشوا في القرن التّاسع عشر وفي بدايات القرن العشرين وذلك بفضل التّرجمات، في حين أنّ قصيد "الصّباح الجديد" في "صديد الروح" لـسوف عبيد نجده قصيدا من الشّعر المنثور وخال من كلّ أثر للرّومنسية وينقل لنا صورا عن الهموم اليوميّة للزّوج العاديّ فما السرّ يا ترى وراء هذه النمذجة الّتي يختارها وتنتهي في الظاهر عند العنوان؟
 ثمّ إن قراءة مقاطع القصيد تنبّهنا إلى مرجعيّات نموذجيّة أخرى من تراث آخر قد تكون مرجعيّات من نماذج لشعراء فرنسيّين من روّاد قصيدة النّثر مثل جاك بريفير Prèvert وآخرين عاشوا بين الحربين. ولكنّنا هنا نجد أنفسنا أمام تعدّد للمرجعيّات النّموذجيّة (العربيّة والأروبية) فهل من وحدة تؤلّف بينها ؟ أم أنّ المسألة لا تتعدّى مجرّد التّخاطر؟
يتكوّن القصيد من خمسة مقاطع فيها صور عن الصّباح العاديّ 

صباح كسل السّرير
والزوجة النّاعسة
صباح الجلوس على الكرسيّ الأبيض
صباح الوقوف للسيّدة المرآة
صباح الشّفرة العجلى
صباح الدم (2) 


منذ المقطع الأوّل تتعاقب الصّور كما تتعاقب ومضات من فيلم وهي كلّها تنقّلنا إلى واقع الصّباح اليوميّ في حياة الزّوج السّعيد (كسل السّرير / الزّوجة النّاعسة / الجلوس على الكرسيّ الأبيض) كما تحيلنا أيضا إلى واقع العجلة والسّرعة في التهيّؤ للخروج لمواجهة هموم الشّارع اليومية. (الوقوف للسيّدة المرآة / الشفرة العجلي / الدّم) وتتتابع صور العجلة في الإعداد على نفس الوتيرة (صباح القهوة الجاهزة ... وصباح تشابك الملاعق بأنامل السكّر ...) وتباغتنا صورة الصّباح البارد صباح الشّارع يصافح صباح الدّفء من شقوق النّوافذ والأبواب.
 إنّ مثل هذه الصّور تتبلور بصفتها صور لها جماليّتها ولها إيقاعها الشكليّ والعميق والمغاير لإيقاع قوافي القصيد العموديّ وهو ينقل لنا واقع الأيّام العاديّة في بساطته وفي تلقائيته الحميميّة ولكن من خلال جماليّة رمزيّة وإيحاء لطيف ومباغت وعندما نحاول الكشف عن أصالة مثل هذه الصّور المجازيّة لوقائع يوميّة وعاديّة نجد أنفسنا نستحضر ذكريات مرجعيّة تتّصل بنموذج جاك بريفير Jacques Prévert ولكن في أيّ قصيد؟ ... أحاول رصد مرجعيّة التّناص في هذا السّياق فأستحضر قصيد "فطور الصباح" من مجموعة "كلمات" حيث يصف الشاعر أحداث وأفعال بسيطة تتعاقب عند تناول قهوة الصباح Le petit déjeuner يقول: 

وضع القهوة في (الكأس) وبالملعقة الصّغيرة حرّك
وأضاف الحليب شرب قهوة الحليب
في القهوة ووضع (الكأس)
ثم أضاف السكّر دون أن يخاطبني (3)
في قهوة الحليب

في المقطع الثّالث يتحوّل الإيقاع الشعريّ بما فيه من جماليّة ورمزيّة لينقل إلينا إيقاع هموم الشّارع والمدينة وهو إيقاع تتألّف من خلاله رمزيّة الأصالة مع رمزيّة الانفتاح

بلّور
صومعة بيضاء
وشمس في طريق روضة الأطفال
لا بدّ من تحيّة الكلب الجرماني
الأصيل (4) 

على أنّ هذا التآلف بين الصّومعة البيضاء "وروضة الأطفال" و"الكلب الجرماني" يتناسق ويتناغم مع تلقائية وبراءة الصّبيّ وهو يداعب الكلب الجرمانيّ ويقبّله.
وتأتي الصّورة الكاريكاتورية لتباغتنا بالتّعبير عن إحساس درامي بالفوارق الطبقيّة

يفرح الجار السّعيد
كلّ صباح يهنّئني بالولد
أهنّئه بالكلب
كلّ صباح ! (5) 

هنا أيضا تتبلور مرجعيّة النّموذج الأوروبيّ من خلال نموذج جاك بريفير في قصيدته (نوم الضّحى)
la grasse matinée
نتبيّن هذا الإيقاع السرديّ في وصف الأحداث اليوميّة المتعاقبة 

كارثيّ هذا الضجيج
عندما يرتفع في ذاكرة الرّجل الجائع
وكارثيّة أيضا رأس هذا الرّجل
رأس هذا الرّجل الجائع
عندما ينظر وجهه، على الساعة السّادسة
صباحا في المرآة الكبيرة في المغازة (6). 

في حين أنّ مرجعيّة النّموذج الأصيل من خلال الشابّي تبقى إلى حدّ الآن متحجّبة ولا نتبيّن أيّ دليل يتّصل بها فما السرّ في هذه النّموذجيّة الأصيلة الّتي لا يتجاوز أثرها حدود العنوان (الصّباح الجديد)؟ ربّما تكون لصيقة ببراءة الطّفولة. فالطّفولة هنا لها عالمها ولها إيقاعها الخاصّ إلى جانب إيقاع الكلمة وإيقاع الرّمز

يغافلني الصّبيّ
فأصبح به أن لا
لكنّ الصّبيّ يقترب
يداعب
ويقبّله (7)...

وفي المقطع الرّابع يتبلور لنا تناغم إيقاع طفولة البراءة من خلال "الأسئلة الّتي لا تنتهي تماما مثل يده الصّغرى ورسوم الحروف الأصغر. وكلّها تسابق الشّجر" وتطاول الظّلال" فالطّفل في مرحلة النموّ "دائما" هو الأطول (8) ونحن نتوقّع أنّنا استوفينا الكشف عن المرجعيّة النّموذجيّة الّتي تؤلّف أرضيّة نسيج الإيقاعات في هذا القصيد، تباغتنا مرجعيّة نموذج "ألف ليلة وليلة" ويتبلور أمامنا إيقاع السّرد وإيقاع الخرافة ولكن على نحو غريب إذ هو يتقاطع مع إيقاع خطوات الصّبيّ يتوجّه مع أبيه نحو روضة مملكة الصّغار إنّه تقاطع عالم الخرافة مع الواقع اليومي.

وخرافة الملك والصّيّاد
يقتله لا يقتله
عند أو العقدة
تنفتح عقدة الحذاء
إذن
نتوقّف لنربط الخيط (9) 


وهنا نستحضر قصيدة Riviera لـبريفير حيث يقول :

جالسة على كرسيّ طويل سيّدة
سيّدة، على مدى السّنين عجفاء
أطول من كرسيّها الطّويل
وعجوز
تستعيد لحظات هناءها...

إنّ إيقاع السّرد في مقاطع هذا القصيد مهيمن أو يكاد ذلك أنّه يبدو الأسلوب الأنسب لتتابع أحداث الأيّام العاديّة. والأنسب لعالم الطفولة فالصّبيّ"يضرب بقدمه (كلاّ ... كلاّ فنكمل الخرافة أولا ... (10) ومع ذلك فإنّ إيقاع الإيحاء الرمزيّ وإيقاع المباغتة لا يلبث أن ينبجس من جديد ويخرق وتيرة إيقاع الخرافة وإيقاع العادات.

عند باب مملكة الصغار
ظلاّن يتقاربان
يتداخلان في قبلة
ثم اليدان تنصرمان:
ذاهبة إلى اللّعب
عائدة إلى التّعب ! (12).

ولكنّ هذه المباغتة ليست إلاّ مباغتة البراءة، (براءة العاشقين يتدخّلان في قبلة)... والبراءة هنا هي بمثابة الخيط الرّفيع الّذي يربط مختلف مقاطع القصيد وهي أيضا مدخل إلى الأحجية.
عندما نريد أن نحدّد النّموذج الأصيل والّذي يمثّل المرجع الأساسيّ في كتابة هذا القصيد وفي كتابة قصائد أخرى للشّاعر نجد أنفسنا متردّدين بين نموذجين وأكثر فهنالك نموذج الشابّي الّذي يتبيّن من خلال اختيار العنوان "الصباح الجديد" وهنالك نموذج جاك بريفير الّذي نتبيّنه من خلال هذا الإيقاع الحرّ والسّرديّ في الوصف وفي التّعبير عن الأشياء اليوميّة والعاديّة البسيطة فأيّهما ينقلنا إلى السرّ العميق المتخفّي ضمن نسيج هذه الكتابة الشعرية ؟ 

لقد افترضنا أنّ الشّاعر قد استوحى من شعر الشابّي نموذج البراءة : براءة الطّفولة ولكنّ شعر بريفير كذلك ليس خاليا من هذه البراءة وكلّ عمل إبداعيّ تؤصّله هذه البراءة الطفليّة بالفعل نتبيّن هذا النّموذج من خلال تحليلنا لنسيج هذه الكتابة ولكنّ نموذج البراءة لا يكفي وحده لاستيفاء النّموذج الأصيل والمتكامل إذ يجب أن ينضاف نموذج الفنّ أو الصّنعة ونموذج الإيقاع بمختلف أنماطه وأشكاله فهل يترتّب عن هذا التّداخل بين النّماذج وبين الإيقاعات في هذه الكتابة الشعريّة أن نلزم بالتّسليم بتعدّد النّماذج الّتي اختارها الشّاعر ؟ أم هل أن هنالك نموذج متميّز لأنّه مستقلّ يتخفّى باستمرار ضمن أبعاد النّسيج البويطيقي لهذه الكتابة البريئة والمتقنة في آن واحد؟
يبدو أنّ هذا الافتراض هو الأرجح فإن كان الأمر كذلك ففيم يتمثّل هذا النّموذج الأصيل ؟
 

إذا كان نموذج الشابّي من خلال اختيار عنوان "الصباح الجديد" قد لعب دور "الدليل النموذجي ولا النموذج بالنسبة إلى الطّموح الإبداعيّ لدى الشاعر سوف عبيد وإذا كان نموذج جاك بريفير مع نموذج ألف ليلة وليلة قد مثل النموذج التّشكيليّ في الإيقاع السّرديّ: (الأوّل في السّرد الوصفيّ والتعبيريّ للأشياء البسيطة والعادية والثاني في السّرد الخياليّ الخرافيّ) فإنّ النّموذج الأصيل والمستقلّ الّذي يوجّه الشّاعر في كلّ كتاباته الشّعريّة يبقى بمثابة السرّ العميق وغير القارّ الشّيء الّذي يجعله يعزب عنّا كلّما أشرفنا على الإحاطة به أو كدنا، إنّه نموذج حيّ خالص يتألّف من نماذج حافّة مثل الّتي ذكرنا في غصون هذه القراءة (نماذج لشعراء ومبدعين معروفين من حضارتنا أو من حضارة الآخر، نماذج الإيقاع، إيقاع اللّغة / إيقاع المجاز / إيقاع السّرد والخرافة / الإيقاع اليوميّ / إيقاع الأحجية) ونستطيع أن نتبيّن تدريجيا المعالم أو بالأحرى السّمات الأشمل لهذا النّموذج عندما نستحضر مرجعيّات أساسيّة في التنظير للعمل الابداعيّ (البويطيقي) سواء في مدار القدامة من خلال نظريّات نقّاد الشّعر القدامى (ابن طباطبا، قدامة، أبو هلال العسكري، الجرجاني...) الّذين ركّزوا على الجدل حول إشكاليّة الموهبة والصّنعة وقد استلهموا النّقاد الإغريق الأوائل في هذا المجال أمثال أرسطو وفي مدار الحداثة حيث ظهرت نظريّات جديدة في تقييم الإبداع البويطيقي في معناه الشّامل بفضل معطيات الجدليّة الهيقيلية والاستشرافيّة الكانطية في الجماليّات ومعطيات الحريّة الوجوديّة.

ففي المدار الأوّل ومن خلال مرجعيّة التّنظير حول الجليل الإبداعي  le sublime  كما وردت في كتاب يحمل نفس هذا العنوانTraité du sublime  "رسالة حول الجليل" لمؤلف مجهول وقد وقع إسناده لنا قد يدعى لونجن Longin  عاش في القرن الأوّل مسيحيّ وهو كتاب ينقد فيه كتابا آخر يحمل نفس العنوان للمؤلف ساسليوس من كالكتCeciliu de Calacte ولد حوالي سنة 50 ق.م حيث ينظر هذا الأخير لوجوب العودة إلى النّموذج الطبيعيّ في العمليّة الفنيّة لكن لونجن يرى أن النّموذج الطبيعيّ لا يكفي لوحده لكي يبلغ الفنّان أو الشّاعر درجة الجليل في الإبداع فيجب إذن أن ينضاف نموذج الصنعة (13) لذلك وجدناه ينزّل كلاّ من هوميروس وأفلاطون وديمستان منزلة النّموذج الجليل الأوّل في الشّعر والثّاني في الفلسفة والثّالث في الخطابة، ويعتبر أنّ على كلّ من يريد أن يبلغ منزلة الجليل في الإبداع وقد توفّرت له الموهبة، أن يبدأ بالتّدّرب على محاكاة مثل هذه النّماذج في إطار الفنّ الّذي يختاره (14) على أنّ مثل هذا التّنظير قد وقع في مفارقة التّرتيب التفاضليّ وهذا التّرتيب يحرّم النّماذج الإبداعيّة الموالية من بلوغ منزلة الجليل وتبقى منزلة الجليل حكرا على نماذج الأوائل من جهة الزّمن، على أنّ جدليّة هيقل تخرق هذا التّرتيب التفاضليّ لتستبدله بانتظام جدليّ طبيعيّ وعقلانيّ يحكمه مبدأ التناقض الإيحائيّ من خلال النّفي ونفي النّفي وهذا المبدأ هو مبدأ الوجود ذاته في صيرورته وسيرورته ومن حيث وجود المطلق هكذا تتعدّد إطلاقية النّموذج في مدار الصّيرورة التاريخيّة ولكنّ التفاضلية هنا تتحرّر من نموذج المطلق المتعالي لتقع في نموذجية المطلق التّاريخي
وهذا ما يتناقض مع منطق الحرّيات الفرديّة الطبيعية والّتي بدأت تتطوّر مؤسّساتيا ومدنيّا عقب عصر الأنوار وخاصّة بعد الثّورة الصناعية.

إلى حدّ الآن لم نتمكّن من تبيّن الخاصّية المحوريّة الّتي تؤسّس النّموذج الخاصّ بإبداعيّة الشاعر سوف عبيد، لقد تبيّنا بعض الخاصّيات الّتي تكوّنها مثل براءة الطفولة وإيحاء الرّمز والإيقاع بمختلف أنماطه وهي خاصّيات نجدها لدى العديد من المبدعين لدى الشابّي من خلال عمود الشّعر ولدى جاك بريفير في القصيد النّثريّ الحرّ ولدى غيرهما. لكنّ سمة النّموذج المحوريّ والّذي يشمل كلّ هذه الخاصيات أو هذه النّماذج الحافّة لم تنكشف لنا بعد على أنّنا عندما نتذكّر الأثر العميق الّذي تركته الفلسفات الرائدة والمهيمنة في القرن الماضي مثل الفينومنولوجيا الوجوديّة والماركسية بصفة خاصّة (الأولى نظرت للحرّية الفرديّة في الإبداع والثانية نظرت للإبداع الملتزم) الّذي ينطلق من الوعي بالصّراع الطبقيّ وبقضايا الشّعب) تنبجس من خلال هذه المرجعيات المعاصرة بعض الأضواء الّتي تنير أمامنا جانبا هامّا من عتمة الأرضيّة الّتي يتجذّر فيها مثل هذا النصّ الّذي أقدمنا على مقاربته (الصّباح الجديد) صحيح لقد اتّجهت سلطة الرّأي العام في الشّعر وفي الأدب وفي الفنّ بصفة عامّة إلى فرض مراتبية تفاضليّة في مختلف مدارات الفنّ والإبداع فأفرزت نموذج الشابّي في الشّعر ونموذج المسعدي في الأدب والرّواية ونماذج كلّ من (حاتم المكي، القرجي بلاغة زبير التركي، الناص بالشيخ علي بن سالم، نجا المهداوي إلخ...) في الرّسم ونموذجي صليحة وعلي الرياحي في الغناء إلخ... لكنّ ثراء أرضنا الزكيّة وإنفتاحنا المتواصل على المستجدّات من النّماذج في العالم أوجدت العديد من المواهب الإبداعيّة الّتي تطمح إلى فرض ذاتها تعبيريّا وإبداعيّا وإن كان ذلك في حدود مرحلتها التاريخية فنتج عن هذا التراكم الكمّي من إنتاج هذه المواهب كيفا متعدّدا من حيث الموضوع ومن حيث الأسلوب ومن حيث الرّؤى إلى درجة أن ارتكبت تلك النماذج الرّيادية السّابقة من حيث هي نماذج تريد لنفسها الإطلاقية وبدأت تظهر نماذج ريادية جديدة تريد الاستيلاء على منزلة المطلق، بيد أنّ صيرورة التّاريخ لا تفتأ تقنعنا أنّ النّزوع إلى إحتكار النّموذجيّة المطلقة هو ضرب من الوهم. لذلك ارتأينا من خلال مرجعيّة التنظير للحريّات الفرديّة وللحريّات المدنيّة (كما قدّمتها تلك الفلسفات (الفينومينولوجيا الوجوديّة / الماركسيّة) وكما ساندتها فلسفات أخرى تلتها سواء من خلال المنهج الأركيولوجي التّوثيقي أو من خلال المنهج البنيوي والتّفكيكي) (فوكو / دولوز / دريدا...) أن نعتبر الخاصّية المحوريّة والشّاملة للنّموذج الخاصّ بشعر سوف عبيد إنما تتولّد من بنية التّجربة الشّخصيّة والحرّية وللتّعبير الإبداعيّ هكذا يكون النّموذج المميّز لإبداع هذا الشّاعر هو نموذج الفرادة في المحاكاة المتحرّرة من سلطة النّموذج الواحد الفرادة في اختيار نماذج الإيقاع، الفرادة في إختيار رمزيّة التّعبير وفي اختيار الرّؤيا.

إنّ نموذجيّة الفرادة من هذا المنطلق تتحرّر من الوقوع في غرابة وهامشيّة النّموذجيّة التّفاضليّة الّتي قد تسعى إلى فرضها سلطة الرّأي العامّ. سواء كان ذلك متافيزيقيا أو تاريخيا كما تتحرّر من وهم التّجاوز فهي نموذجيّة تتغذّى من قناعة التّواجد والتآلف والإنسجام داخل مدار انتظام الحرّيات الّذي يفترض أقنوم الإقصاء والعزل وإنّما هو يفرض، من خلال علاقات التّذاوت بين هذه الفرادات الالتزام بالتّواصل الإبداعي المبنيّ على مبدأ حتميّة الاعتراف بالآخر مهما كان مختلفا ومنفردا وإن كان لا بد أن نعترف بتجاوز ممكن لمثل هذه النموذجيّة في الكتابة والإبداع فلن يكون هذا التّجاوز تجاوزا العدميّة الزّمن الطبيعيّ وإنّما هو تجاوز ضمن مدار تكافؤ القراءات يتّجه نحو إشراقيّة الزّمن الوجوديّ. إنّه تجاوز للقلق ولليأس، إنّه تجاوز خطر من أجل بناء الذّات وعمران الكيان...

الهـــوامش :

-1- 
انظر ديوان الشابي أغاني الحياة ص 175-176
-2- 
أنظر صديد الروح مجموعة شعرية لسوف عبيد ص 49
-3- 
أنظر نفس المصدر ص 49
-4- 
أنظر نفس المصدر ص 49-50
-5- 
أنظر نفس المصدر ص 50
-6- Cf. J. Prévert : Paroles . p 79. édition Gallimard 1949.
-7-
نظر صديد الروح مجموعة شعرية لسوف عبيد ص 50.
-8- 
نفس المصدر ص 50
-9- 
نفس المصدر ص 50
-10- 
نفس المصدر ص 51
-11- 
نفس المصدر ص 51
-12- 
نفس المصدر ص 51
-13- Cf ;Longin – traité du sublime ch II, III pp145-147 édition Edouard Privat, 
Toulous – Paris – Librairie éditeur 1853
~بقلم شرف الدّين بوغديري~

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

free counters