شكري السلطاني يطلّ من نوافذ العشق والنّار
بقلم: محمد البدوي
هل أتاكم حديث الشاعر يقدّ
من ميّت الحروف دنيا من الخيال و الأحلام، يبنيها من آماله و آلامه فإذا هي
مرآة ناطقة بالحياة نقرأ فيها أحاسيسنا و نشاهد فيها ذواتنا وهي تحبّ وتطمح و تشكو
في صمت و تصفح . تعانق أشواق الحياة وتفيض إيمانا وتلتهب حماسا للوطن تحمله
عاليا فوق كلّ الأوطان.
كذا يحس القارئ وهو يطالع
مجموعة شكري السلطاني " نوافذ العشق والنار" باكورة أعماله و بدايته على
درب الإبداع الشعري.
ولم أكن في حاجة إلى أن أنتظر اكتمال المجموعة الأولى لهذا
الشاعر لأدرك امتلاكه لناصية الشعر فقد كانت قصائده تأثث مساءات الأربعاء في
"واحة المبدعين" وقبل ذلك
عرفت شكري السلطاني طالبا في كلية الآداب بسوسة تمتاز تدخلاته في حصص الأدب
بأناقتها واعتمادها على نصيب وافر من المجاز و الاستعارات وهو أمر لا يتسنّى إلا
لمن كان على وعي بقيمة اللغة التأثيرية وامتلك أدواتها أو ما تـيسّر منها.
و أنت إذا تتبعت قصائد هذه المجموعة، وجدت نفسك أمام شاعر مسكون
بهواجس جيله يلتقي مع رفاق الدرب في جوانب و يختلف معهم في أخرى . فالشاعر مسكون
كغيره بمواضيع الوطن و مشتقاته و بالمرأة مصدرا للإبداع ومشجبا يعلق عليه ألحانه وأحزانه
و بالشعر قيثارة تترجم ما يجول في الخاطر و جسرا إلى الآخرين .
إنّ للوطن حضورا كبيرا في قصائد السلطاني ، فهي نوافذ يطلّ منها
على البلاد يتغنّى بالأمجاد و الحضارات المتعاقبة في لغة صريحة عارية من التعقيد و
الغموض قريبة من الأناشيد الملحمية التي يرددها الناشئة . فمن مدينته جلمة
"مدينة الشعر" كما سمّاها إلى "قيروان العواصم و الهوى" مع ما
تحمله من دلالات تاريخية، فتونس " عاصمة الفنّ" مرورا
بــ"قرطاج " ، كلّها قصائد بل نوافذ يطلّ منها الشاعر مرددا نشيده
الحماسي :
-
حبّ البلاد شراب عاتق
أبدا يصبو إليه فؤاد عاشق دنف
-
يا تونس الشمس والأشجار
ساجدة والطير تهتف
والأنسام تلقانا
يا خير أرض تربي الطفل
معتنقا حبّا و سلما و عدلا ثمّ إحسانا
و حين تتسع حدود البلاد عند الشاعر لتصل بغداد و حلب يتردد بين
وترين أحدهما ملحمي و الثاني مرير لأن الواقع لا يتجاوز الشعر و الخطابة :
- يا أمّة شمخت من عمق أحرفها كلّ الحروف تنامت من هوى العرب
هل نحن إلا من الأشعار حلّتنا
بل نحن
قوم نروض الشعر بالخطب
و يتجاوز شاعرنا هذي الحدود ليتنافذ في إيقاع مرير حزين مع هموم
القارة السمراء في " إفريقيّ مشرد:
حتّام يا سمراء طفلك
بائس للموت دوما قد ترقّب موعدا
قد خال حلم الناس أنّه
ناهض لكنّ ذاك الحلم أجهض بالردى
لكنّ نوافذ شكري السلطاني مسكونة بالعشق أيضا والهوى تطلّ منها
المرأة حاملة أكثر من اسم فهي أسماء وهند و سهام و ليلى وقد تكون ضميرا منفصلا أو
متصلا أو مستترا يلخص هذا الكيان الأنثوي مصدر الإلهام:
أراك فتأتي إليّ
اللغات و تقذف في الصدر ضوء القصيد
ويتردد هذا المعنى في عديد القصائد حتىّ لكأن الشاعر لا يريد من
المرأة إلا أن تكون غرضا يأثث به نصه:
أحبّك لكن، أحبّك كي ينهض من عمقه الشعر
أحبّك يا حبيبتي لتهاجر الألفاظ إليّ ...
أحبّك الرحيق في القصيدة...
و لعلّ أهمّ ما يتردد في قصائد السلطاني العاطفية حديثه عن
العينين في العناوين أو في المتن مقتفيا خطى الأسلاف و المعاصرين ، مضيفا إلى ذلك
بعض صوره و استعاراته:
* عيناك تختال في
غوريهما الحكم...
* أنا أحبك و أحبّ في عينيك هاتيك الخيول
...
* عاريا أسّاقط في الليالي السود من عينيك
...
* عيون ليلى في الخريف كالخشوع ...
و قد يسعى الشاعر إلى تعميق تجربته الوجودية بإضافة عناصر أخرى
تثري النصّ و تجعله ينفتح على آفاق أرحب :
دعيني فالمدام على
رحيل وكأسي رنّ في الجسد الحطام
دعيني إنّ في الأسفار
نارا تخيط الكون من لهب الكلام
وفي هذه المجموعة أتى زمن الليل طاغيا على كلّ الأزمنة إطارا
رومانسيا ومصدرا للإلهام و مادة له. ومثلما طغى اسم "ليلى" على كلّ
الأسماء فقد طغى فعل " أحبّك"
على كلّ الأفعال متواترا أفقيا في النصّ الواحد و عموديا في أغلب القصائد ليكون
جسرا بين المتكلّم والطرف الثاني في المعادلة التقليدية بين الرجل و المرأة .
و إذا كانت المرأة متمنعة حينا وتحكمها التقاليد و الأعراف حينا
آخر فإن الشاعر وجد ضالته في قصيدته يسعى إلى نحتها و صياغتها كما يشاء خياله،
فكان هاجس النصّ حاضرا بكثافة ، يأرّقه في محتواه و صياغته .
و لعلّ شكري السلطاني أراد أن يكون معتدلا فلم يذهب عميقا في
التجريب ولم يركب الغموض مطية إلى القول الشعري و لم يخرج على المألوف من
الأوزان و البحور إلا في بعض تجاوزات قد لا يقبلها الخليل . فكانت المعارضات
للشعراء القدامى من أمثال الحصرى في " يا ليل الصبّ متى غده" و
للمعاصرين كصالح جودت في "قرطاج"
، وكان الإعجاب و التأثر بالمتنبي وبغيره من القدامى واضحا، حضرت أسماؤهم و ضمّنت
أبياتهم ،حتّى لتخال السلطاني تعمّم وامتطى ناقته ليقف على الأطلال أو قاد خيل
قوافيه لبعض الغزوات في بيداء الكلام.
أسماء بانت عن الأنظار يا
ولدي و فارقـــتك فراق البحر للزبــد
قد تدّعي الشعر أشباح
تشــرّده تبني الكــلام و
هل بيت بلا وتد
تلك الحداثة و الإبهام
مركبها والكلّ يصرخ
نحن اليوم في الجدد
كيف الكتابة والأوزان تصرفكم
؟ هــلاّ وردتم حياض الشعر في جلد
شعري بيان و لست باكيا
طللا يـا دار ميّة بالعلياء
فالســــند
و لكنّ هذا الشاعر الذي سكن إلى هند و ليلى و آمن بأحمد بن
الحسين وأبي تمّام و شنّ الغارات على المحدثين من شعراء عصره تأثر بالسياب و خرج
على بحور الشعر و نظام المصراعين و استبدل البيت بالسطر الشعري في عديد النصوص و
أضاف صورا و مجازات لم ترد في كتب الأقدمين فكان الخطاب مزدوجا يتحسس خطاه في مسالك
الإبداع الشعري .
و " نوافذ العشق و النار
" وفية لهذه المرحلة من تجربة شكري السلطاني وهو المتخرج حديثا من
كلية الآداب بسوسة مشحونا بثقافة أكاديمية مبهورا بروائع الشعر القديم، فهل يركب
في قادم الأيام صهوة الرعد فيعصف بما رث وتداعى من الأثاث القديم و يتخذ لنفسه
مسلكا لم تطأه الأقلام من قبل و يكتوي بلهيب العشق و النار بدل أن يطل عليه من
النوافذ .
لشكري السلطاني
رصيد معرفي واكتواء بالحرف وبداية تجربة تأهله لكتابة نصّ جديد ينافس به في ساحة
الشعر فتكون الكتابة شهادة على التجربة الذاتية وعلى العصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.