مقدّمة:
في كثير من الأحيان، تكون القصيدة وثيقة تاريخيّة تسجّل ذاكرة المكان والإنسان.
وتحلّق "عاليا وبعيدا"* لتحطّ عند حضارة عريقة عميقة متأصّلة في الإنسان
والمكان... هو الزّمان وحده ينفلت كـــ" جناح خارج السّرب"* ليقول لنا، تغيّرتُ
وما تغيّرت الأصول الدّفينة في أعماق الأرض، وأعماق الأصيل من بني البشر....
سوف عبيد، شاعر رحل بنا، بسيّارة الطّين، ثمّ عاد بنا سالمين، وسلّم خطانا إلى
أرض الواقع، أرض تصونها تسجيلات الشّعر كما الوثيقة التّاريخيّة، فتصير دليلا على أهمّيّة
الشّعر عندما يستعرض ذاكرة وتاريخا وحضارة ويعرض صورا "تأصيلا لكيان" * وتدوينا
للذّاكرة الجماعيّة قبل الذّات المفردة... هو إبداع في "أدب المكان" نظما
يرتّب أدراج الذّاكرة ويطوف بنا مدارج مسرح واقع صرنا نتابعه سياحة وصورا.
- المكان: غمراسن، مسقط رأس الشّاعر. ومسرح لحضارة وأصالة.
- والزّمان: ذاكرة لا تنفصل عن الذّات المفردة أو الجماعيّة.
- والشّخصيّة الرّئيسيّة: الإنسان المتأصّل في جذور تربة أرض أنبتته يافعا ويعود إليها... كما يعود الباحث عن علامات الطّريق في مغاور التّاريخ.
مشكورة سيّارة الطّين، وكريمة أيادي من "ملّسها" من تربة أرضه، فما حاد عن الطّريق. وما ضاعت خطاه وما ضاعت ذاكرته.
* تأصيلا لكيان: عنوان كتاب للأديب محمود المسعدي
~وهيبة قويّة~
غمراسن |
غمراسن ~ للشّاعر سوف عبيد
الشّاعر: سوف عبيد، أصيل غمراسن |
سيّارةُ الطين ... تلك
مَلّسَها من صافي الأديم
أديم في جَوْف كهف
... كهف في أعلى تَلّ
كيْ يصل إلى رأس التلّ
لابدّ من...ومن...
من شوك
وصخر مَسْنون
والويل من أفعى أو من عقرب
ربّما
سيّارةُ الطين...تلك
في باحة الحُوش...ذلك
عَجَنَ حديدَها المصقول
بلّورَها اللّــمّاع
أضواءَها الكاشفةَ
الحمراء
والبُرتقاليّة
بدَلويْن من ماء ـ بئر الكرمة ـ
لمّا اِستوت بين يديه ملساء
هيفاء
تركها تجف
الشّمس فوق رأسه كرةُ جمر
سيّارةُ الطين...تلك
جفّت عجلاتُها ويَـبِـست...
الآن يتسنّى له تركيبُها بيُسر على مِغزلين
ثَقّفَهُما من غُصن زيتونة الجسر
برفق ثَقبها
واحدةً تلو واحدة
مَرحَى....مرحى
اِستوتْ ودارت في كفّه
مَثنى...ثلاثا...رُباعا
بلمسة واحدة
أدار المُحرّك
فانسابَ انسيابا كأزيز الرّيح
كحفيف أجنحة الخطاطيف
كخرير الوادي عند السّواقي
كرَجْع الشّادي في محافل الأعراس
كصَدى الزغاريد
برفق
فتح بابَها ـ أو كذلك كان يتسلّى ـ
ثم اِستوى خلف عجلة القيادة
يدُه اليُمنى أمسكت بها بلطف
يدُه اليُسرى أدلاها من النّافذة
تماما...مثلما يقُود المُحنّكون
من السّائقين
لم يودّعْ
لم يودّعْ
الشّوقُ إلى المسافات البعيدة دعاهُ
وحافية قدماهُ
ضغط على دوّاسة البنزين
لم تَترُكْ سيارةُ الطين وراءها إلاّ الغبار
كم من جبال قطعتْ
كم من وهاد ... مروج... غابات... سَباسبَ... أنهار
سنوات في سنوات
كم من ريح... ثلوج... أمطار
مَرقَتْ
وأقطار
سنوات في سنوات
سيّارةُ الطّين...
ما تعبتْ
ما كلّتْ
ما تَوقّفتْ
سنوات في سنوات
ضاقت به الأماكنُ
سنوات في سنوات
قارّات ومدائنُ
وما أوصلته الطّرقات
إلاّ
إليها ؟
غُمراسنُ
بوصلة القلب
تشير إليها جنوبا
ولو أنّ الشّمال مفاتنُ
غمراسنُ
البدءُ والمُنتهى
مهما توالتْ مَواطنُ
ـ غُمراسنُ ـ
في قاموس لغةِ البربر
سيّدُ القوم
إباءٌ...كرمٌ...ومَحاسنُ
غمراسنُ
قديــما... قديــــــــــما ... قديـــــــــــــــــــــما
كانت الأمطار مدرارة
حتى في الهواجر
الدّيناصورات في غاباتها
كانت تَجُول
كم اِصطاد من أحفــاد أحفـــــــــــاد
أحفــــــــــــــــــــــادها ضَبّا
في المغاور
غُمراسنُ
قديما...قديما
الأسلافُ الأوائل
رَسمُوا في كهوف الشّعاب
الأفيالَ والزّرافات
والأيائلْ
غُمراسنُ
قديما
في ثنايا واديها النّخلُ والتّينُ والزّيتون
يا شذى الشّيح والعَرعار
من كلّ فجّ عميق
جاءها نجع
وجحافل رُكبانُ
غمراسنُ
البيوتُ منحوتة والمَعاصر
في الصّخورْ
ويُتوّجون رُؤوس الجبال
بالقصورْ
غُمراسنُ
في السّوق القديم
ركن سيّارته
سار من مدرسته
إلى ـ بئر الكرمة ـ
سار
كما كان يسير والأعوام
عبر الوادي
على الأقدام
~الشّاعر: سوف عبيد، أصيل غمراسن~
روابط تتحدّث عن غمراسن:
- ألبوم صور لغمراسن، أعدّه الحبيب علجان (غمراسني) على بيكاسا
- مدوّنة: ذاكرة الأرض، نفحات من غمراسن، الحبيب علجان (غمراسني )
- رابط لكلّ المدوّنة: ذاكرة الأرض، Mémoire de la Terre
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.