الشاعر والأكاديمي
سعد علي مهدي في حوار خاصّ
حاوره: عليّ الغزي
![]() |
الكاتب والصحفي علي الغزّي |
بين الأمس
واليوم تفتح مدينتي الناصرية نوافذها المختلفة
في العطاء الأدبيّ والفنيّ والتاريخيّ المتميّز.
غائبون حاضرون في الذّاكرة ... حاضرون
في فضاءات الأدب.. ممّن أسّسوا نواة طيبة في
عطائهم الأدبيّ ورحلوا.. وهذا حال الروّاد
الأوائل الذين أعطوا للكلمة حقّها وأثرها الإنساني
ومنهم رشيد مجيد وكاظم الركابي والشاعر كاظم جهاد والشاعر قيس لفته
مرد والشاعر عقيل عليّ.
واليوم
نتوقّف عند تلك الامتدادات فالناصرية مدينة ولود... أنجبت العديد
من الطاقات الأدبية المتميّزة سواء في مجال
الأدب والشّعر والفنّ. ومن هذه الطاقات
المبدعة وأقول مبدعة لأنّها وفقت بين العمل
والدوام الرسمي ومواصلة المسيره الثقافية ألا
وهو الأديب الشاعر والأكاديمي سعد علي مهدي.
~سعد
علي مهدي شاعر وأكاديمي إسمٌ لامع في الوسط الأدبي والثقافيّ، لكنّ المتلقّي
والمتابع بحاجة ليعرف الكثير ؟
سعد
علي مهدي
فهمت من السؤال
على أنّه محاولة لتسليط الضّوء على السيرة الذاتية.. لأجيب بأنّني أبصرت الدنيا في
صيف عام 1956 على ضفاف نهر الفرات وفي مدينة الناصرية تحديدا.. وكانت فيها مراحل
الطفولة والدراسة الابتدائية والمتوسّطة ثم انتقلت بعدها وتبعا لوظيفة والدي (
رحمه الله ) إلى مدينة البصرة حيث أكملت دراستي الإعدادية على ضفّة شطّ العرب..
لأنتقل بعد ذلك إلى مدينة السليمانية في شمال الوطن حيث أكملتُ دراستي الجامعية
هناك.
~أوّل
من قال الشعر هو المهلهل بن ربيعة، ماذا
يقول الشاعر سعد علي مهدي عن تاريخ الشعر ؟
سعد
علي مهدي
أظنّ أنّ تاريخ
الشعر يرتبط ارتباطا ًوثيقا ًومباشرا مع تاريخ المشاعر الإنسانيّة منذ أن أدركها
الإنسان القديم .. ونظرة عميقة إلى جدران الكهوف في العصور السحيقة وما وقعت عليه
أبصارنا من آثارها تدلّ بوضوح على أنّ ولادة الشّعر كانت مع ولادة الشعور في الإنسان
القديم .. وقد ظلّ مرافقا له حتى عصرنا
الحاضر وسيبقى لصيقا به حيثما يبدأ من تنويمة الأمهّات لأطفالهنّ عند النوم ..
وحتى رخامة القبر إذ يكتب شعرا على سبيل الرثاء .. ومن هذا المنطلق فإنّني لا
أستطيع الفصل بين الإنسان وبين الشعر على الإطلاق .. إذ أرى فيه شاعرا بالفطرة
مادام يمتلك عقلا ونبضا ولغة يستطيع من خلالها ترجمة أحاسيسه .. تلك هي القاعدة ..
أمّا الاستثناء .. فهي حين لا يكون الإنسان شاعرا.
~الشعر
عند العرب في الجاهلية وصدر الإسلام عنوان بلاغتهم وميزان ومرجع لأدبائهم ولسانهم
الفصيح . فهل سعد علي مهدي مع الشّعر الجاهلي وصدر الإسلام ؟ أم مع التجديد ؟
سعد
علي مهدي
أنا مع الشعر
الجميل بغضّ النظر عن المسمّيات. وأقصد بالجميل هو ذلك الشّعر الّذي يجد صداه في
نفسي من حيث شعوري بصدق حروفه وعذوبة مفرداته وإيقاعه الشّعري المتناغم مع نبضات
القلب.
ليس مهمّا عندي أن تكون القصيدة في العصر الجاهلي أو في
عصر ما بعد الحداثة .. طالما أنّها تلامس مشاعري .. وتتناغم مع أحاسيسي بشكل صادق
ورصين .
أمّا عن التّجديد
بمفهومه الجمالي .. فلا أظنّ أنّ هناك من يقف ضدّه .. شريطة أن يكون ملتزما بقانون
القصيدة .. وهنا أريد أن أوضّحَ نقطتين مهمّتين.
إنّ اللّغة
تنمو كما ينمو أيّ كائن حيّ.. لذلك فإنّني على يقين من أنّ امرئ القيس لو أتيح له
الوقوف الآن وراء المنصّة ليلقي بعضا من قصائده أمام الجمهور لما فهمنا منه شيئا ًولاضطررنا
إلى استخدام القاموس من أجل فهم ما يقول .. فضلا عن أنّ مناخ القصيدة قد تغيّر ولم
تعد هناك خيمة للحبيبة يمرّ بها الشّاعر وهو على ناقته متخوّفا من عيون رجال
القبيلة.
إنّنا نعيش عصر
العولمة .. وعصر السّرعة وتقنين اللّغة .. وما كان يصلح استخدامه من الأدوات
الشعريّة في ذلك الزمان .. لم يعد صالحا الآن .. لذلك .. وبناءً على هاتين
النقطتين وأعني بهما ( تطوّر اللّغة و تغيّر المناخ الشعري ) .. فلابدّ لنا أن
نكون مع التجديد .. ولكن بشرط ألاّ تكون كتاباتنا طليقة إلى حدّ الفوضى بحيث أنّها
لا تلتزم بحدود .
البحر واسعٌ
جدا.. والمحيطات أوسع .. ولكنّها بالرّغم من ذلك .. تقف عند السواحل لتلتزم
بحدودها.. وهي بذلك قد استحقت مسمّياتها .. أمّا أن نكتب دون إيقاع بدعوى الوقوف
تحت مظلّة الحداثة .. فإنّنا بذلك نكون قد ألغينا الحدّ الفاصل بين الشعر والنثر
.. وأصبح لزاما علينا أن نخلع صفة الشاعر على كلّ من كتب بضعة مفردات دون ترتيب.
هناك من يقول
.. إنّنا سئمنا بحور الشّعر وقيوده الصّارمة منذ مئات السّنين وعلينا أن نتخطّى
ذلك .. فإن سمحنا له .. سنجد ذات يوم من يقول .. إنّنا سئمنا الفاعل مرفوعا والمفعول
به منصوبا والمضاف إليه مجرورا ًمنذ مئات السنين .. وعلينا أن نتحرّر من ذلك . إنّها
دعوة للفوضى تحت مسمّى الحداثة .. وهذا ما لا يمكنني القبول به .
خلاصة القول ..
إنّني مع الحداثة في تطوير اللّغة والمناخ الشعريّ عند الالتزام بالحدود .. طالما
أنّني أعشق سواحل البحار لا البحار فحسب.
~كما
هو معروف فإنّ الشعر العربي ينقسم إلى قسمين، الشعر الفصيح الخاضع للنحو والعروض
والشعر العامي (الشعبي) وأحد أنواعه الشعر النبطي. أيّهما أقرب إلى نفسك ؟ وما
قراءتك عن الشعر النبطي ؟
سعد
علي مهدي
أنا أحبّ الشعر
بنوعيه الفصيح والشعبي .. شريطة أن يكون ملتزما بالحدود التي ذكرتها آنفا .. ومن
المناسب القول .. إنّ جمهور الشّعر الشّعبي أكثر بأضعاف من جمهور الفصيح .. ربّما
لأنّه ظلّ متمسكا بقانون القصيدة من حيث الإيقاع والقافية إضافة إلى الصّور
الشعرية زاهية الألوان فيه .. إنّه يحدّث النّاس بلهجتهم اليومية التي يتكلّمون
بها .. لذلك وجد صداه الجميل في نفوسهم. ولقد قرأت واستمعت إلى الكثير الكثير من
قصائد الشّعر الشّعبي العراقي وأعجبت بالكثير منها .. كما قرأت قصائد من الشعر
النبطي ( بلهجة دول الخليج ) وأعجبت بالبعض منها وحسب مدى فهمي لتلك اللهجة .. واطّلعت
على الشعر العامي باللّهجة المصرية والشامية ودول المغرب العربي .. وشدّني البعض
منها .
~الشعر
النبطي متجرّد عن قيود النحو لعدم رضوخه لقيود النحاة ويحتفظ بمعانيه وألفاظه
وأوزانه، ما هو تعليقك على هذا النوع من الشعر ؟
سعد
علي مهدي
إنّ الشعر
النبطي تختصّ به اللّهجات المحلّية لدول الخليج .. ولا يختلف من حيث عدم الالتزام
بالنحو عن الشعر الشعبي العراقي طالما أنّه لا يُكتب باللّغة العربية الفصحى ..
ولكنّه ظلّ ملتزما بإيقاع الوزن والقافية مما ترك انطباعا جميلا في قلوب الجماهير
.
~ابن
خلدون يقول في مقدّمته ( إذا كان الشعر البدوي مستقيما أو محتفظا بأوزانه فلا قيمة
لحركات النحاة لأنّ الكلام يُعرف بالقرائن، فهل من تفسير ؟ كون أدوات الرفع والنصب لا قيمة
لها ؟؟
سعد
علي مهدي
إن صحّ كلام ابن
خلدون على الشعر البدوي .. فإنّه لا يصحّ على القصيدة الفصحى. إنّ الشعر البدوي لا
يختلف من حيث الانتساب عن الشّعر النّبطي أو الشعبي طالما أنّه يقال باللّهجة
البدويّة أو ما يصطلح عليه ( اللكنة البدوية ) حتّى وإن استخدم الكلمات الفصيحة ..
وهو بذلك غير مضطرّ إلى استخدام قواعد النّحو في الشعر .
إنّ الحفاظ على
القصيدة الفصحى يستوجب الحفاظ على قواعد اللّغة .. وإلاّ ضاعت وأصبحت ضمن الملفّات
القابعة في زوايا الإهمال ومن ثمّ النسيان. ويجب ألاّ ننسى ما للقرآن الكريم من
فضل كبير على لغتنا الفصحى من حيث الاحتفاظ بها سليمة من شوائب المفردات.
إنّ خللا بسيطا
في حركات الفتحة أو الضمّة وما إلى ذلك يقلب المعنى رأسا على عقب .. وهذا من أجمل
مميّسزات لغتنا العربية الجميلة .. ولولا النحو وسيفه الصارم لما وجدنا اليوم لغة تجمعنا
جميعا من الماء إلى الماء في الوطن العربيّ الكبير .
الشاعرة ( عليا
) وهي حبيبة أبي زيد الهلالي في القرن السابع الهجري كتبت نصّا نبطيّا وأرسلته
عندما كان يحارب البربر في المغرب جاء فيه
تقول
فتاة الحي عليا مثايل
ولا
قايل مثلها في الحي قايل
يالله
إن تهىء لي طروش لجلهم
يسيرون
ما بين الصخر والقوايل
~وأنا
أقرأ لسعد علي مهدي شاعرا للشباب ما هو
رأيك بهذه القصيدة وما تفسيرك لها ؟
سعد
علي مهدي
ما قرأته
للشاعرة ( عليا ) يأخذني إلى استشعار لوعة الحبيبة من الفراق . أمّا أن أكون شاعرا
للشباب .. فإنّني أعتقد ومن خلال ما كتبته أنّه يخالف الواقع. فأنا لا أكتب للشباب
فحسب .. وإنّما أحاول زراعة أزاهير الجمال في طريق الإنسان السويّ دون النظر إلى
عمره أو جنسه أو ديانته وما إلى ذلك .
إنّ الشعر هو
لغة الحياة .. والحياة لا تختصّ بمرحلة محدّدة من العمر .. وإنّني أقول ذلك
في الوقت الذي أعتزّ به كثيرا بالشباب .. فهم أغلبية قرّائي والمعجبين بما أكتب ..
وأشعر من خلالهم بالسعادة الغامرة والسرور الكبير .
~ما
هي مقوّمات القصيدة العربية وكيفية بنائها ؟
سعد
علي مهدي
القصيدة لوحة
.. مقوّماتها الإحساس والموهبة والحرف الرصين .. فضلا عن إتقان النحو والإلمام
بالعروض .. فإذا ما توفّر الخيال الخصب .. حلّق الشاعر بعيدا في فضاء الكلمة ..
وأدركَ كيفية توزيع الألوان وتوازن الضّوء مع الظلّ على الزوايا .. كي تتكامل
لوحته الجميلة .
كلّ إنسان يستطيع
أن يمسك بالفرشاة ويمزج الألوان ويخطّ ما يشاء .. ولكنّ القليل القليل من يتقن فنّ
الرسم ليظهر لنا لوحة تجلب لها الانتباه وتتناغم معها شبكية العين. وإنّ خربشات
فوضوية لا تجيد استخدام اللّون .. ولا توزيع الظلال والضّوء .. لا يمكنني أن أطلق
عليها لوحة فنيّة .. بل هي نوع من الهوس الفوضوي الّذي يشبه الهذيان .
~الشعر
لغة الخيال، فكم من الوقت تستغرق القصيدة ؟ وهل تبقى في الخيال لحين بنائها ؟
سعد
علي مهدي
حضور القصيدة
أمرٌ عجيب .
فهي أحيانا
تستغرق من الوقت أياما.. وأحيانا.. لا تأخذ ولادتها من الدقائق سوى القليل . إنّ
ذلك يعتمد على طبيعة القصيدة من حيث الطول .. وعلى الدافع النفسي ومدى تجاوبه مع
نوع المناسبة التي كتبت من أجلها القصيدة .
ومن خلال
تجربتي .. علمت أنّ القصيدة لا موعد لها .. فهي تحضر أحيانا دون أن أهيئ لها
مستلزمات الضيافة .. وتغيب أحيانا في وقت أكون فيه قد هيأت لها كلّ ما يتطلبه
إكرام الضيف .
كما أدركت ــ
ومن خلال تجربتي أيضا ــ أن محاولة التعجيل بقدومها يتسبّب في غيابها ربّما .. حتّى
إذا ما ألغي موعد الزيارة .. طرقت أبواب القلب دون موعد متفّق عليه .
هناك من
القصائد من ظلّت تمتماتها ساكنة في الرّوح لسنوات طويلة .. ثمّ تحوّلت فجأة إلى
كلمات فرضت نفسها على الشعور خلال يوم واحد . وهناك من ظلّت على شكل تمتمات حتى
هذه اللّحظة بانتظار اليوم الشعري الموعود .
ألم أقل لك إنّ
أمرها عجيب ! .
~يقال
أنّ ميزان الشعر هو موسيقى الشعر ، فما هو الفارق بين البحر والوزن ؟ وهل هناك صلة
بين علم العروض والموسيقى؟
سعد
علي مهدي
وزن القصيدة هو
تسمية تسبق البحر الذي كتبت عليه .
يقال وزن هذه
القصيدة على البحر الوافر .. ووزن تلك على البحر البسيط .. وهكذا .. وبه يتمّ
تقطيعها وفق حركات معيّنة لمعرفة البحر الذي كتبت عليه وضبط إيقاعها .. ومن الجدير
بالذكر أنّ وزن القصيدة حساس جدّا لذلك تمّ تشبيهه بميزان الذّهب تبعا لحساسيته إذ
أن أيّ خلل في حركة بسيطة يمكن اكتشافها من خلاله .
لقد وصل لنا
بعد الفراهيدي أكثر من ستة عشر بحرا ً .. وهناك من أضاف عليها وهناك من طوّرها ..
ولكن في العموم .. فإنّ قصائدنا لم تخرج عن أمواج تلك البحور .. كما لم يخرج السلم
الموسيقي عن ( دو .. ري .. مي ) . ولا علاقة بينهما إلاّ من حيث الإيقاع المنتظم
لكليهما .. والتزام كلّ منهما بالمسار الإيقاعيّ الرصين والجميل معا .
ومن الجدير
بالذكر .. إنّ القصائد الفراهيدية يمكن وضعها على السلّم الموسيقي بغية تلحينها ..
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تذكر .. ولكنّنا لم نستمع يوما لقطعة نثرية انسابت
على أوتار السلم الموسيقيّ .. وكلّ المحاولات التي حاولها البعض في سبيل ذلك ذهبت
أدراج الرياح .
~متى
بدأت علامات الإلهام الشعري لديك ؟ وما هي بداياتك ؟
سعد
علي مهدي
كانت بداياتي
في سنّ مبكرة .. ربّما في الثالثة عشر من العمر حين كلّفتي أحد الأساتذة بتنظيم
نشرة مدرسيّة أدرجت فيها قصيدة لي .. ولكنّها لم تكن قصيدة بالمعنى الدّقيق لهذه
الكلمة .. وإنّما كانت محاولة للكتابة لا أكثر .
مازلت أذكر أنّني
استعرت ديوان المتنبي من مكتبة المدرسة في ذلك الوقت .. ولكنّني أعدته في اليوم
التالي إذ لم أستطع فهم الكثير من كلماته حينها .. إلا ّأنّني لم أنقطع عن القراءة
في تلك المرحلة وما بعدها .. إذ أدمنت الشعر وأحببته لدرجة أنّني كنت أستغلّ فرصة
الاستراحة بين الدروس لا لألعب مع أقراني كما يفعل الآخرون .. وإنّما لألتقي
بصديقي الشعر.
وقد شجعتني تلك
القراءة المتواصلة على كتابة بعض القصائد خلال دراستي الثانوية ممّا دفع أحد
أساتذة اللّغة العربية إلى أن يقحمني في مسابقة شعرية على مستوى ثانويّات محافظة
البصرة ( حيث كنت طالبا هناك ) لأنال
خلالها مرتبة متقدّمة .
ولم أكمل
دراستي الجامعية إلاّ ولقب ( شاعر الجامعة ) يسبق اسمي .. لأصطدم بعد ذلك بالحروب
وطغيان السلطة .. ممّا جعلني أهجر الشعر دون إرادتي ولمدّة قاربت الربع قرن .
لقد توقّفت عن
الكتابة تماما من العام 1980 وحتى بعد سقوط النظام عام 2003 ورغم ذلك لم أنقطع عن
القراءة طيلة تلك الفترة المظلمة .
~في
منتصف القرن التاسع عشر بدأ التجديد في القصيدة الحديثة وبدأت محاولات الشعر الحرّ
والشعر المرسل الّذي لا يتقيّد فيه الشاعر بالوزن والقافية فهل تأثر سعد علي مهدي
بذلك ؟ كيف تقرأ الحالة ؟
سعد
علي مهدي
هذا سؤالٌ
بحاجة إلى شيءٍ من الإسهاب .
لدينا تراث عظيم
من الشعر العربيّ نفاخرُ به بين الأمم .. ولقد ظلّ ملتزما لقرون عديدة بمسارٍ واحد استطاع تحديده فيما بعد الخليل بن أحمد
الفراهيدي عبر بحوره المعروفة .. حتى بدأت إرهاصاتُ جيل جديد من الشعراء تظهر في الأفق لتبدأ من خلالها
محاولات التجديد .
لم تبدأ قصيدة
الشعر الحرّ ( التفعيلة ) من فراغ .. بل سبقتها قصائد كثيرة جدّا مهدّت لها الطريق .. وكان في مقدّمة أولئك
الشعراء المجددّين ( إلياس أبو شبكة ) ومن اصطلحَ عليهم بشعراء المهجر ( إليا أبو
ماضي .. جبران خليل جبران .. ميخائيل نعيمة ) وغيرهم كثير . لقد خرج هؤلاء جميعا عن
النظام الصارم للقصيدة العمودية من حيث القافية الموحّدة والصدر والعجز.. برغم أنّ
لديهم على غرارها أهراماتٌ من القصائد .. ولكنهم آثروا التجديد ولم يخرجوا عن بحور
الشعر الخليلية ولا عن القافية على الإطلاق .. وتحضرني الآن قصيدة ( الطلاسم )
لإيليا أبي ماضي كمثال على ذلك .
كان ذلك مقدّمة
لثورة الشعر على دكتاتورية القصيدة العمودية التي ظلت متمسّكة بعرشها مئات السنين .. ليظهر لنا جيل السيّاب
والملائكة بالشعر الحرّ والذي يسمّى أحيانا شعر ( التفعيلة ) لأنّه لم يخرج عن البحور
المعروفة للشعر العربي أبدا .. وإنما ظلّ
محافظا عليها وشديد الالتزام بها .. علما أنّ للملائكة والسيّاب الكثير من القصائد العمودية
الرصينة وما كان التجديدُ لديهما إلاّ بتنوّع القافية وتوزيع تفعيلة البحر على
القصيدة من الألف إلى الياء .. دون الالتزام بقانون الصدر والعجز .
ولكي نعطي إلى
القارئ مثالا ً.. فقد عرف البحر الكامل في الشعر العمودي بأنّه يتكوّن من ستّ
تفعيلات موزّعة بالتساوي بين الصدر والعجز ..
متفاعلن
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
متفاعلن متفاعلن
فجاء الشعر
الحرّ ليأخذ تفعيلة ( متفاعلن ) بمفردها ويوزّعها على السطور دون التقيّد بعددها
في كلّ شطر .. لذلك سمّي الشعر الحر بشعر ( التفعيلة ) .. ومن هذا المنطلق فإنّنا
لا نستطيع كتابة قصيدة بالشعر الحرّ على البحر الطويل مثلا لأنه يحتوي على تفعيلتين مختلفتين ..
فعولن مفاعيلن
فعولن مفاعلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
لقد كان الفارق
الزمني بين الشعر العمودي والشعر الحر قرونا كثيرة كما أسلفنا .. حتى إذا ما مرّت بضع عشرات من السنين على رداء الشعر الجديد .. خرج لنا
جيلٌ آخر يريد أن يخلع ذلك الرداء نهائيا.
لقد تأثّر
الكثيرون بالأدب العالمي المترجم وخصوصا الشعر الروسي .. وصعبت على البعض مشقّة الوزن
والقافية .. فضلا عن جهل البعض بهما تماما .. فارتأوا القيام بثورة أخرى جعلت الشارع يتحوّل من الفصيح إلى الشّعبي
الذي مازال محتفظا بجماليات القصيدة من حيث الوزن والقافية .
لا غبارَ على
شاعر كتب الكثير من القصائد الخليلية الرصينة وقصائد شعر التفعيلة ( الحر ّ)
.. ثمّ عبّر عن مشاعره لاحقا بشيءٍ من النثر .. لا غبارَ على شاعريته قطّ .. ولكنّ
رمال الربع الخالي كلّها على كاتب لا يجيد السباحة في سواحل البحور الخليليّة ..
ويدّعي لنفسه صفة شاعر .
~للشّعر
الحرّ فنون شعرية وتكرار للكلمات، فهل
جرّبتَ ذلك وهل من منجز ؟
سعد
علي مهدي
أنا حريصٌ كلّ
الحرص على تنوّع قصائدي بين العمودي والحرّ ( التفعيلة ) .. ولم تكتمل لي مجموعة شعرية
إلاّ وكانت متوازنة بينهما من حيث العدد .. لذلك فإنّ لديّ من المنجز ما يتجاوز
العشر مجاميع شعرية توزّعت بالتساوي بين عمودي الخليل و حرّ السيّاب .
أمّا النثر ..
فإنّني أكتب من خلاله أحيانا ما يجول بخاطري حين يهرب منّي غزال الشعر .. ولديّ
الكثير من تلك الخواطر .
~في
أربعينيات القرن الماضي برزت نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب في الشّعر الحر وشعر
التفعيلة، ماذا يقول سعد علي مهدي عن أولئك الروّاد ؟
سعد
علي مهدي
لقد قلت رأيي
فيهما حين أسهبت بالإجابة على سؤال سابق .. وهما بلا شكّ قد أتحفا المكتبة العربية
بروائع الشعر العربي . إنّني مازلت أذكر ذلك اليوم الذي أكملت فيه قراءة المجموعة
الشعريّة الكاملة للسياب وحاولت النهوض من سريري فلم أستطع .. فقد أحسست حينها أنّني
مصابٌ بمرضه الذي مات فيه .. وهنا تكمن روعة الشاعر إذ ينقل مشاعره إلى المتلقي
بشكل رائع ودقيق . وأودّ الإشارة هنا إلى أمر ٍ ربما يغفل عنه البعض وهو أن الشعر
الحرّ وشعر التفعيلة كلاهما واحد .
~لأيّ
مدرسة شعريّة ينتمي سعد علي مهدي ؟ وهل تأثّرت بالحداثة ؟
سعد
علي مهدي
قيل أنّ الأسد
مجموعة خراف . أي أنّه قد تغذّى بما يكفي حتى صار بتلك القوة التي يُعرف بها . ولو
لم يتأثّر الشعراء بمن قبلهم لما أستطاع شاعرٌ أن ينمّي موهبته ويصقلها بحيث
يصبح من الذين يشار لهم بالبنان .
ولقد تأثّرت
بالكثير من الشعراء في مرحلة المراهقة الشعرية .. ولكنّني حاولت ومازلت أحاول
الابتعاد عن أسلوبهم في الكتابة من أجل الوصول إلى الشخصية المتميّزة .
أودّ أن تعلم
يا صديقي أنّ هناك من هو شاعر .. وهناك من هو مدرسة شعرية . إنّ الجواهري والنواب
والسيّاب وقبّاني ودرويش ليسوا شعراءً فحسب .. وإنّما هم مدارس شعرية تخرّج من
خلالها الكثير .. وهم بدورهم قد تخرّجوا عن مدارس سبقتهم بكلّ تأكيد .. فالجواهري
مثلا لم تأتِ عظمته من الفراغ .. وإنّما هو خرّيج مدرسة المتنبي المذهلة .. وهكذا
.
أمّا عن التأثر
بالحداثة فأقول بلى .. طالما أنّ كرة الأرض لا تكفّ عن الدوران وطبيعة الكتابة لا
تقف عند عصر محدّد .. وطالما أنّ الأبجدية
تفرز كلّ يوم ٍ من أساليب التعبير ما يجعل الحياة في حراك ٍ مستمر .. فلا
بدّ لنا من تغيير لون محابرنا ونبرة حناجرنا على الدوام .. وإن شاعرا ً لا يؤمن
بالحداثة ولا يتأثر بها هو شاعرٌ قد اختار لموهبته الانتحار .
~شعر
النثر وهو الحرّ الطليق، وفي الشعر الإنجليزي أطلق شكسبير قيود القافية كذلك
الأمريكي وولت وتمن أطلقه من قيود العروض، فما هي قراءتك لقصيدة النثر ؟ وما رأيك
في كتابات توفيق الحكيم ؟
سعد
علي مهدي
أنا أسمّي
الأشياء بمسمّياتها . فالأدب إما أن يكون شعرا ،أو أن يكون نثرا .. ولا أؤمن
بالخلط بينهما حيث نقول شعر النثر أو نثر الشعر .. لأن ذلك يؤدي بنا في النهاية
إلى الفوضى الأدبية إن صحّ التعبير .
يصبّ في نهر
الشعر رافدان هما .. الشعر العمودي والشعر الحرّ ( التفعيلة ) .. كما يصبّ في نهر
النثر روافد عديدة مثل القصّة ..المقالة ..الخاطرة ..المسرحية .. وما إلى ذلك من
الروافد الجميلة .
قد تسألني عن
كيفية التمييز بينهما .. وأجيبك بكلمة واحدة وهي .. الإيقاع .
إنّ كتابة لا
تشعر بإيقاعها الأذن هي نثرٌ بكلّ تأكيد .. وتأتي بعد ذلك القافية كي تكتملَ أدوات
الجمال .
من المؤكّد أنّ
هذا الكلام لا يرضي الكثيرين ممّن خلطوا بين النهرين الأدبيين بحيث جعلوهما نهرا واحدا..
ولكنّني هنا أعبّر عن رأيي وعن رأي الكثير من الشعراء وإن أخفوا آراءهم تلك وراء
ستار المجاملة .
كلّ شعر هو موزون
ومقفّى .. ولكن .. ليس كلّ ما موزون ومقفّى هو شعر .
هناك نصوصٌ
نثرية فاقت من حيث الجمال بعض قصائد الشعر .. ولكن احتفظّ كلّ منهما بطبيعة مياهه
والرافد الذي ينتمي إليه .
إنّ طبيعتي
تأبى مجاملة أحد على حساب كرامة الشعر .. ولقد خسرتُ بذلك الكثير من الأصدقاء
واحتفظت بصداقتي مع الشعر .
أمّا عن
العظماء شكسبير وولت وتمن فإن لهم تجاربهم التي أغنت الثقافة الإنسانية بالمعرفة
.. ولقد اطلعت على بعض التجارب الشعرية الحديثة للشعب الأمريكيّ فوجدت أنّ الكثير
منها يعتمد على الإيقاع الوزنيّ والقافية في الشّعر كما توجد النصوص النثرية إلى
جانبها .
وبالنسبة إلى
توفيق الحكيم فإنّ قراءتي له تؤكد لي عمق كتاباته الرائعة في مجال المسرح وخصوصا
ما اصطلح عليه بالمسرح الذهني .
~المسرح الشّعري يتقبله الجمهور متنوّع في الأداء وثراء التعبير ، فهل
جربت ذلك ؟
سعد
علي مهدي
المسرح من الفنون
الراقية والرائعة التي أحبّها وأتابع نشاطها على الدوام .. ومحبّتي للمسرح ليست
وليدة اليوم .. وإنّما تابعت تلك الخشبة الساحرة وما يدور عليها منذ أيّام صباي
الأولى وحتى الآن . وكنت وما أزال أعتقد بأنّ للمسرح رسالة نبيلة .. وغاية ً سامية
.. إلاّ أنّني لم أجرّب الكتابة له ولا أظنّ بأنني سأخوض في هذه التجربة حيث أدرك
أهميتها وصعوبتها وضرورة الإلمام بكلّ مقوّماتها من أجل النجاح . ولا أكتمك أمرا حين
أقول .. أنا لا أميل إلى مسرحة الشعر .. وإنّما أعشق النصوص المسرحية النثرية
الجادّة والهادفة .
~هل
تأثّرت بالملاحم الشعرية، جلجامش، الأوديسة ، الإلياذة، هوميروس، وهل من تعليق ؟
سعد
علي مهدي
لكلّ عصر
تجاربه التي تفرزها طبيعة الحياة المرافقة له .. وما صلح من التجارب في عصور قديمة
.. ليس بالضرورة أن يصلح في انعكاساته على كلّ العصور . إنّ آلاف السنين الفاصلة
بين حياتنا الآن وحياة من كتب الملاحم الشعرية تجعل من المستحيل أن نتأثر بها .
نعم ..
الإنسانُ هو الإنسان ذاته .. والمشاعر هي ذاتها أيضا .. ولكنّ الاختلاف يكمن في
طبيعة الظروف المحيطة والتي لا يمكن اختزالها بمجرد حروف . لقد مضى عصر
(جلجامش ) كما مضى من بعده عصر ( قفا نبك ِ ) .. ولم يعد بيننا من يحاول البحث
الآن عن نبتة الخلود كما لم يعد بيننا من يستهلّ قصيدته بالوقوف على الأطلال . نحن
نعيش يا صديقي في عصر الشبكة العنكبوتية والهاتف النقال .
إنّ الملاحم
أثرت الأدب الإنساني وسلّطت الضوء على عمق الحضارة .. ولكن لا وجود الآن
لشخص تربطهُ صداقة مع أنكيدو .
~ما
هو رأيك في قصائد النثر لمعروف الرصافي ولماذا لم يستمر في ذلك ولم يؤمن بالتجديد
؟
سعد
علي مهدي
قرأتُ الرصافي
شاعرا تحدّث عن مشاكل عصره وقد واكب الزهاوي في تلك المرحلة .. وجميع ما كتبوه في
ذلك الوقت من النصف الأول للقرن المنصرم هو قصائد على نمط الشعر العمودي .
كما قلت لك يا
أخي علي .. إن لكل مرحلة ظروفها .. ومرحلة الرصافي لم تكن مؤهلة لاستيعاب شيءٍ
جديد في مسار الأدب .. فضلا عن أنّ كلّ جديد يتعرض للمقاومة من قبل المحافظين على
القديم .. ولكن يبقى الأمر منوطا ً بما يقدمه ذلك الجديد من إبداع .
لقد نجحت تجربة
الشعر الحرّ ( التفعيلة ) لأنها بُنيت على أسس صحيحة وجددت ما هو قديم في الشكل لا
في المضمون بدليل أنّها ظلّت متمسكة ببحور الخليل والقافية ولم تعلن عليهما الحرب
أو القطيعة .
إنّها غيّرت
نوع الزجاج ولون الطلاء وشكل الديكور وعدد النوافذ في كلّ طابق من ناطحات السحاب
الشعري .. فجاءت بشكل هندسيّ جديد أعجب الناظرين مع الحفاظ على أسس البناء القديم
وجدرانه .. ولم تأتِ ببناءٍ جديد نسف كلّ ما بنيَ قبله من الأساس .. لذلك استطاعت
تلك التجربة الجميلة أن تصمد أمام الرياح .
لربّما فشل
الرصافي لأنّه أراد أن يغيّر شكل ناطحة السحاب في وقت شديد الأعاصير .
~روفائيل
بطّي أيضا من الرواد في شعر النثر ، فهل
تأثرت في شعره ؟ وما هو رأيك فيه ؟
سعد
علي مهدي
عرفت عن
روفائيل بطي أنّه كان صحفيّا ووزيرا ونائبا في البرلمان إبان فترة العراق الملكي .. أي قبل
ثورة تموز وإعلان الجمهورية .. ولم تستوقفني كتاباته الأدبية كثيرا ً.. لهذا لم
أتأثّر به .
ما
هي نصيحتك للشعراء الشباب ؟
سعد
علي مهدي
أوّل ما أنصح
به الشعراء الشباب هو قراءة الشعر بكلّ مشاربه ومذاهبه بدءا من المعلّقات وحتى
يومنا هذا .. وأن لا يتعجّلوا النشر وصولا إلى الشهرة إذ عليهم أن يدركوا أنّ طريق
الشعر على جماله إلا أنه شائكٌ وطويل .. كما أنصحهم بالإنصات إلى صوت النقد مهما
كان قاسيا .. إذ من خلاله يستطيعون معرفة الأخطاء وتجنبها مستقبلا .
إنّ القراءة
المستمرّة والإحساس الصادق ومخاض التجربة والموهبة الأصيلة ستؤتي أكلها في يوم ما لنقرأ لهم بعد ذلك أجمل القصائد وأروعها .
ما
سرّ علاقتك بالماء كعلاقة بدر شاكر السيّاب بالمطر، وجدت في ديوانك المؤلف من 22
قصيدة ، إثنى عشر قصيدة تشير إلى الماء أي نصف الديوان ، ما تعليقك ؟
سعد
علي مهدي
لكلّ شاعر
قاموسٌ من المفردات يختصّ به .. وهناك من النقاد من يتابع إحصاء الكلمات على
الشاعر ويبني عليه مستوى القوة والضعف في الكتابة .. ولكنّ الحقيقة تثبت عكس ما
يقال .. فإذا علمنا أن وليم شكسبير قد استخدم ثلاثة آلاف مفردة فقط من اللغة
الإنجليزية على ما تمتلكه تلك اللغة من معجم كبير .. نكون قد أدركنا روعة الإبداع
لدى الكاتب بغضّ النظر عن العدد المستخدم في قاموسه الشعري .
لقد سررت جدا
لإحصائك كلمة ( الماء ) في مجموعتي الشعرية .. والحقيقة هي أنّني لا أعلم سببا مباشرها
لتكرارها .. ولكن ربما يعود ذلك لولادتي على ضفاف نهر الفرات وشبابي على ضفاف شطّ
العرب .. وعموما فإنه يسرّني أن أختم لقاءنا الجميل بالآية الكريمة ( وجعلنا من
الماء كلّ شيءٍ حي ) .
ختاما أتمنى
لك التقدم والازدهار لخدمة الحركه الادبيّة في الوطن العربي
والعراق وخير الناس من نفع الناس .
علي الغزي
من الروعة بمكان أن نجد مثل هذه الحوارات الملأى بما يفيد القارئ ويثري معلوماته... بوركتما...
ردحذفونحن في نادينا نتقدّم بالشّكر للأستاذ عليّ الّذي أتاح لنا نشر الحوار.
حذفأرقى تحيّة إليه وإلى كلّ الأصدقاء المتابعين